فصل: فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يَبْطُلُ بِهِ عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: حُكْمُ اخْتِلَافِ الْمُضَارِبِ وَرَبِّ الْمَالِ:

وَأَمَّا حُكْمُ اخْتِلَافِ الْمُضَارِبِ وَرَبِّ الْمَالِ، فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْعُمُومَ، بِأَنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْمُضَارَبَةَ فِي عُمُومِ التِّجَارَاتِ، أَوْ فِي عُمُومِ الْأَمْكِنَةِ، أَوْ مَعَ عُمُومٍ مِنْ الْأَشْخَاصِ وَادَّعَى الْآخَرُ نَوْعًا دُونَ نَوْعٍ وَمَكَانًا دُونَ مَكَان، وَشَخْصًا دُونَ شَخْصٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَنْ يَدَّعِي الْعُمُومَ مُوَافِقٌ لِلْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ إذْ الْمَقْصُودُ مِنْ الْعَقْدِ هُوَ الرِّبْحُ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ فِي الْعُمُومِ أَوْفَرُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَلَفَا فِي الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْإِطْلَاقَ، حَتَّى لَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: أَذِنْتُ لَكَ أَنْ تَتَّجِرَ فِي الْحِنْطَةِ دُونَ مَا سِوَاهَا وَقَالَ الْمُضَارِبُ: مَا سَمَّيْتَ لِي تِجَارَةً بِعَيْنِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ أَقْرَبُ إلَى الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: إنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا وَقِيلَ: إنَّهُ قَوْلُ زُفَرَ.
(وَوَجْهُهُ) أَنَّ الْإِذْنَ يُسْتَفَادُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ، فَكَانَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلَهُ، فَإِنْ قَامَتْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ مُدَّعِي الْعُمُومَ فِي دَعْوَى الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةً وَفِي دَعْوَى التَّقْيِيدِ وَالْإِطْلَاقِ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ مُدَّعِي التَّقْيِيدَ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةً فِيهِ، وَبَيِّنَةُ الْإِطْلَاقِ سَاكِتَةٌ وَلَوْ اتَّفَقَا عَلَى الْخُصُوصِ؛ لَكِنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ الْخَاصِّ فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: دَفَعْتُ الْمَالَ إلَيْكَ مُضَارَبَةً فِي الْبَزِّ وَقَالَ الْمُضَارِبُ: فِي الطَّعَامِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّرْجِيحُ هُنَا بِالْمَقْصُودِ مِنْ الْعَقْدِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي ذَلِكَ فَتُرَجَّحُ بِالْإِذْنِ، وَإِنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ، فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ بَيَّنْتَهُ مُثْبِتَةٌ وَبَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ نَافِيَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْإِثْبَاتِ، وَالْمُضَارِبُ يَحْتَاجُ إلَى الْإِثْبَاتِ لِدَفْعِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ، فَالْبَيِّنَةُ الْمُثْبِتَةُ لِلزِّيَادَةِ أَوْلَى وَقَدْ قَالُوا فِي الْبَيِّنَتَيْنِ إذَا تَعَارَضَتَا فِي صِفَةِ الْإِذْنِ وَقَدْ وُقِّتَتَا: إنَّ الْوَقْتَ الْأَخِيرَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الثَّانِي يَنْقُضُ الْأَوَّلَ، فَكَانَ الرُّجُوعُ إلَيْهِ أَوْلَى.
وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ وَالرِّبْحِ فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: كَانَ رَأْسُ مَالِي أَلْفَيْنِ، وَشَرَطْتُ لَكَ ثُلُثَ الرِّبْحِ.
وَقَالَ الْمُضَارِبُ: رَأْسُ الْمَالِ أَلْفٌ، وَشَرَطْتَ لِي نِصْفَ الرِّبْحِ فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ أَلْفُ دِرْهَمٍ يُقِرُّ أَنَّهَا مَالُ الْمُضَارَبَةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ فِي أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ أَلْفٌ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ أَنَّهُ شَرَطَ ثُلُثَ الرِّبْحِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ.
وَكَانَ قَوْلُهُ الْأَوَّلُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ فِي الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الرِّبْحَ يُسْتَفَادُ مِنْ أَصْلِ الْمَالِ، وَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ جُمْلَةَ الْمَالِ مُضَارَبَةٌ، وَادَّعَى الْمُضَارِبُ اسْتِحْقَاقًا فِيهَا، وَرَبُّ الْمَالِ يُنْكِرُ ذَلِكَ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ الْمُضَارِبُ: بَعْضُ هَذِهِ الْأَلْفَيْنِ خَلَطْتُهُ بِهَا، أَوْ بِضَاعَةٌ فِي يَدِي؛ لِأَنَّهُمَا مَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْجَمِيعَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ، وَمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ الْقَوْلَ فِي مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ قَوْلُ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْقَابِضِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ الْقَبْضَ أَصْلًا، وَقَالَ لَمْ أَقْبِضْ مِنْكَ شَيْئًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَذَا إذَا أَنْكَرَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ رَبِّ الْمَالِ فِي مِقْدَارِ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الرِّبْحِ يُسْتَفَادُ مِنْ قِبَلِهِ فَكَانَ الْقَوْلُ فِي مِقْدَارِ الْمَشْرُوطِ قَوْلَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ الشَّرْطَ رَأْسًا، فَقَالَ لَمْ أَشْرُطْ لَكَ رِبْحًا، وَإِنَّمَا دَفَعْتُ إلَيْكَ بِضَاعَةً كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ؟؟ فَكَذَا إذَا أَقَرَّ بِالْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، وَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُضَارِبِ فِي قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ فِي قَوْلِهِ الْأَخِيرِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ فِي مِقْدَارِ الرِّبْحِ فِي قَوْلِهِمْ: يَجْعَلُ رَأْسَ الْمَالِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَيَجْعَلُ لِلْمُضَارِبِ ثُلُثَ الْأَلْفِ الْأُخْرَى، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ فِي زِيَادَةِ رَأْسِ الْمَالِ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ فِي زِيَادَةِ شَرْطِ الرِّبْحِ وَعَلَى قَوْلِهِ الْأَوَّلِ يَأْخُذُ رَبُّ الْمَالِ الْأَلْفَيْنِ جَمِيعًا.
وَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ ثَلَاثَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا أَخَذَ رَبُّ الْمَالِ أَلْفَ دِرْهَمٍ عَلَى قَوْلِهِ الْأَخِيرِ، وَاقْتَسَمَا مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ أَثْلَاثًا وَعَلَى قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، يَأْخُذُ رَبُّ الْمَالِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَيَأْخُذُ ثُلُثَيْ الْأَلْفِ الْأُخْرَى لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ قَدْرَ مَا ذَكَرَ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ أَوْ أَقَلَّ، وَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ أَكْثَرَ مِمَّا أَقَرَّ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى قَبُولِ قَوْلِ رَبِّ الْمَالِ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُضَارِبِ، فَإِنْ جَاءَ الْمُضَارِبُ بِثَلَاثَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَقَالَ: أَلْفٌ رَأْسُ الْمَالِ، وَأَلْفٌ رِبْحٌ، وَأَلْفٌ وَدِيعَةٌ لِآخَرَ، أَوْ مُضَارَبَةٌ لِآخَرَ، أَوْ بِضَاعَةٌ لِآخَرَ، أَوْ شَرِكَةٌ لِآخَرَ، أَوْ عَلَى أَلْفٌ دَيْنٌ، فَالْقَوْلُ فِي الْوَدِيعَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْبِضَاعَةِ وَالدَّيْنِ قَوْلُ الْمُضَارِبِ فِي الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ مَنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَهُ، إلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ بِهِ لِغَيْرِهِ، وَلَمْ يَعْتَرِفْ لِرَبِّ الْمَالِ بِهَذِهِ الْأَلْفِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيهَا.
وَكُلُّ مَنْ جَعَلْنَا الْقَوْلَ قَوْلَهُ فِي هَذَا الْبَابِ فَهُوَ مَعَ يَمِينِهِ، وَمَنْ أَقَامَ مِنْهُمَا بَيِّنَةً عَلَى مَا يَدَّعِي مِنْ فَضْلٍ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تُثْبِتُ زِيَادَةً، فَبَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ تُثْبِتُ زِيَادَةً فِي رَأْسِ الْمَالِ، وَبَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ تُثْبِتُ زِيَادَةً فِي الرِّبْحِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: إذَا قَالَ رَبُّ الْمَالِ شَرَطْتُ لَكَ ثُلُثَ الرِّبْحِ وَزِيَادَةً عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَقَالَ الْمُضَارِبُ بَلْ شَرَطْتَ لِي الثُّلُثَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى شَرْطِ الثُّلُثِ، وَادَّعَى رَبُّ الْمَالِ زِيَادَةً لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِيهَا إلَّا فَسَادُ الْعَقْدِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَإِنْ قَامَتْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةَ شَرْطٍ.
وَلَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: شَرَطْتُ لَكَ الثُّلُثَ إلَّا عَشَرَةً.
وَقَالَ الْمُضَارِبُ: بَلْ شَرَطْتَ لِي الثُّلُثَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِبَعْضِ الثُّلُثِ وَالْمُضَارِبُ يَدَّعِي تَمَامَ الثُّلُثِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي زِيَادَةِ شَرْطِ الرِّبْحِ، وَفِي هَذَا نَوْعُ إشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي صِحَّةَ الْعَقْدِ، وَرَبُّ الْمَالِ يَدَّعِي فَسَادَهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُضَارِبِ وَالْجَوَابُ أَنَّ دَعْوَى رَبِّ الْمَالِ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ فَسَادُ الْعَقْدِ لَكِنَّهُ مُنْكِرٌ لِزِيَادَةٍ يَدَّعِيهَا الْمُضَارِبُ فَيُعْتَبَرُ إنْكَارُهُ؛ لِأَنَّهُ مُفِيدٌ فِي الْجُمْلَةِ.
وَلَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: شَرَطْتُ لَكَ نِصْفَ الرِّبْحِ وَقَالَ الْمُضَارِبُ: شَرَطْتَ لِي مِائَةَ دِرْهَمٍ أَوْ: لَمْ تَشْتَرِطْ لِي شَيْئًا، وَلِيَ أَجْرُ الْمِثْلِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي أَجْرًا وَاجِبًا فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ، وَرَبُّ الْمَالِ يُنْكِرُ ذَلِكَ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَإِنْ أَقَامَ رَبُّ الْمَالِ الْبَيِّنَةَ عَلَى شَرْطِ النِّصْفِ، وَأَقَامَ الْمُضَارِبُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ لَهُ شَيْئًا، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا مُثْبِتَةٌ لِلشَّرْطِ وَبَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ نَافِيَةٌ، وَالْمُثْبِتَةُ أَوْلَى.
وَلَوْ أَقَامَ الْمُضَارِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ شَرَطَ لَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَبَيِّنَتُهُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ اسْتَوَيَا فِي إثْبَاتِ الشَّرْطِ وَبَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ أَوْجَبَتْ حُكْمًا زَائِدًا، وَهُوَ إيجَابُ الْأَجْرِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، فَكَانَتْ أَوْلَى وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُمْ جَعَلُوا حُكْمَ الْمُزَارَعَةِ فِي هَذَا الْبَابِ حُكْمَ الْمُضَارَبَةِ إلَّا فِي هَذَا الْفَصْلِ خَاصَّةً، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا أَقَامَ رَبُّ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ شَرَطَ لِلْعَامِلِ نِصْفَ الْخَارِجِ، وَقَالَ الْعَامِلُ: شَرَطْتَ لِي مِائَةَ قَفِيزٍ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الدَّافِعِ، وَفِي الْمُضَارَبَةِ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُزَارَعَةَ عَقْدٌ لَازِمٌ فِي جَانِبِ الْعَامِلِ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ لَا بَذْرَ لَهُ مِنْ جِهَتِهِ، لَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْعَمَلِ يُجْبَرُ عَلَيْهِ، فَرَجَّحْنَا بَيِّنَةَ مَنْ يَدَّعِي الصِّحَّةَ وَالْمُضَارَبَةُ لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ، فَإِنَّ الْمُضَارِبَ لَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْعَمَلِ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَقَعْ التَّرْجِيحُ بِالتَّصْحِيحِ، فَرَجَّحْنَا بِإِيجَابِ الضَّمَانِ وَهُوَ الْأَجْرُ.
وَلَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: دَفَعْتُ إلَيْكَ بِضَاعَةً وَقَالَ الْمُضَارِبُ: مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ أَوْ: مِائَةَ دِرْهَمٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَسْتَفِيدُ الرِّبْحَ بِشَرْطِهِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ أَنَّهُ لَمْ يُشْتَرَطْ وَلِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقًا فِي مَالَ الْغَيْرِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْمَالِ وَلَوْ قَالَ الْمُضَارِبُ: أَقْرَضْتَنِي الْمَالَ، وَالرِّبْحُ لِي وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: دَفَعْتُ إلَيْكَ مُضَارَبَةً، أَوْ: بِضَاعَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي عَلَيْهِ التَّمْلِيكَ، وَهُوَ مُنْكِرٌ، فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ التَّمْلِيكَ، وَلِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَعْطَاهُ بِضَاعَةً، أَوْ مُضَارَبَةً، ثُمَّ أَقْرَضَهُ وَلَوْ قَالَ الْمُضَارِبُ: دَفَعْتَ إلَيَّ مُضَارَبَةً وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: أَقْرَضْتُكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْأَخْذَ كَانَ بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ وَرَبُّ الْمَالِ يَدَّعِي عَلَى الْمُضَارِبِ الضَّمَانَ، وَهُوَ يُنْكِرُ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَإِنْ قَامَتْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ أَصْلَ الضَّمَانِ.
وَلَوْ جَحَدَ الْمُضَارِبُ الْمُضَارَبَةَ أَصْلًا، وَرَبُّ الْمَالِ يَدَّعِي دَفْعَ الْمَالِ إلَيْهِ مُضَارَبَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَدَّعِي عَلَيْهِ قَبْضَ مَالِهِ، وَهُوَ يُنْكِرُ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلَوْ جَحَدَ ثُمَّ أَقَرَّ فَقَدْ قَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ: سَمِعْتُ أَبَا يُوسُفَ قَالَ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا مُضَارَبَةً ثُمَّ طَلَبَهُ مِنْهُ، فَقَالَ: لَمْ تَدْفَعْ إلَيَّ شَيْئًا ثُمَّ قَالَ: بَلَى أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ- قَدْ دَفَعْتَ إلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً ضَامِنٌ لِلْمَالِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ، وَالْأَمِينُ إذَا جَحَدَ الْأَمَانَةَ ضَمِنَ كَالْمُودَعِ.
وَهَذَا لِأَنَّ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ لَيْسَ بِعَقْدٍ لَازِمٍ، بَلْ هُوَ عَقْدٌ جَائِزٌ مُحْتَمِلٌ لِلْفَسْخِ، فَكَانَ جُحُودُهُ فَسْخًا لَهُ أَوْ رَفْعًا لَهُ، وَإِذَا ارْتَفَعَ الْعَقْدُ صَارَ الْمَالُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَالْوَدِيعَةِ، فَإِنْ اشْتَرَى بِهَا مَعَ الْجُحُودِ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لِلْمَالِ فَلَا يَبْقَى حُكْمُ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ مِنْ حُكْمِ الْمُضَارِبِ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ، فَإِذَا صَارَ ضِمْنِيًّا لَمْ يَبْقَ أَمِينًا، فَإِنْ أَقَرَّ بَعْدَ الْجُحُودِ لَا يَرْتَفِعُ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ ارْتَفَعَ بِالْجُحُودِ، فَلَا يَعُودُ إلَّا بِسَبَبٍ جَدِيدٍ، فَإِنْ اشْتَرَى بِهَا بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ مَا اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ضَمِنَ الْمَالَ بِجُحُودِهِ فَلَا يَبْرَأُ مِنْهُ بِفِعْلِهِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ مَا اشْتَرَاهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَيَبْرَأُ مِنْ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشِّرَاءِ لَمْ يَرْتَفِعْ مَعَ الْجُحُودِ بَلْ هُوَ قَائِمٌ مَعَ الْجُحُودِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ لَا يُنَافِي الْأَمْرَ بِالشِّرَاءِ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ غَصَبَ مِنْ آخَرَ شَيْئًا، فَأَمَرَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْغَاصِبَ بِبَيْعِ الْمَغْصُوبِ أَوْ بِالشِّرَاءِ بِهِ صَحَّ الْأَمْرُ، وَإِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ مَضْمُونًا عَلَى الْغَاصِبِ.
وَإِذَا بَقِيَ الْأَمْرُ بَعْدَ الْجُحُودِ فَإِذَا اشْتَرَى بِمُوجَبِ الْأَمْرِ وَقَعَ الشِّرَاءُ لِلْآمِرِ، وَلَنْ يَقَعَ الشِّرَاءُ لَهُ إلَّا بَعْدَ انْتِفَاءِ الضَّمَانِ، وَصَارَ كَالْغَاصِبِ إذَا بَاعَ الْمَغْصُوبَ بِأَمْرِ الْمَالِك وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ الضَّمَانِ كَذَا هَذَا، وَقَوْلُهُ: الْمَالُ صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، فَلَا يَبْرَأُ مِنْ الضَّمَانِ بِفِعْلِهِ قُلْنَا: الْعَيْنُ الْمَضْمُونَةُ يَجُوزُ أَنْ يَبْرَأَ الضَّامِنُ مِنْهَا بِفِعْلِهِ كَالْمَغْصُوبِ مِنْهُ إذَا أَمْرَ الْغَاصِبَ أَنْ يَجْعَلَ الْمَغْصُوبَ فِي مَوْضِعِ كَذَا، أَوْ يُسَلِّمَهُ إلَى فُلَانٍ، إنَّهُ يَبْرَأُ بِذَلِكَ مِنْ الضَّمَانِ.
وَكَذَلِكَ رَجُلٌ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا عَبْدًا فَجَحَدَهُ الْأَلْفَ، ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا، ثُمَّ اشْتَرَى، جَازَ الشِّرَاءُ، وَيَكُونُ لِلْآمِرِ وَبَرِئَ الْجَاحِدُ مِنْ الضَّمَانِ وَلَوْ اشْتَرَى بِهَا عَبْدًا ثُمَّ أَقَرَّ لَمْ يَبْرَأْ عَنْ الضَّمَانِ، وَكَانَ الشِّرَاءُ لَهُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُضَارِبِ.
وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا عَبْدًا بِعَيْنِهِ ثُمَّ جَحَدَ الْأَلْفَ ثُمَّ اشْتَرَى بِهَا الْعَبْدَ، ثُمَّ أَقَرَّ بِالْأَلْفِ فَإِنَّ الْعَبْدَ لِلْآمِرِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِشِرَاءِ الْعَبْدِ بِعَيْنِهِ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ لِنَفْسِهِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ لِلْآمِرِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ أَقَرَّ ثُمَّ اشْتَرَى بِخِلَافِ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الشِّرَاءِ لِرَبِّ الْمَالِ، إلَّا أَنْ يُقِرَّ بِالْمَالِ قَبْلَ الشِّرَاءِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْمَأْمُورِ بِبَيْعِ الْعَبْدِ إذَا جَحَدَهُ إيَّاهُ فَادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ أَقَرَّ لَهُ بِهِ: إنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ، وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ضَمَانِهِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ عَبْدًا فَأَمَرَهُ أَنْ يَهَبَهُ لِفُلَانٍ فَجَحَدَهُ وَادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ أَقَرَّ لَهُ بِهِ فَبَاعَهُ، إنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ضَمَانِهِ.
وَكَذَلِكَ إنْ أَمَرَهُ بِعِتْقِهِ فَجَحَدَهُ، وَادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ ثُمَّ أَقَرَّ لَهُ بِهِ فَأَعْتَقَهُ جَازَ عِتْقُهُ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَمْرَ بَعْدَ الْجُحُودِ قَائِمٌ، فَإِذَا جَحَدَ ثُمَّ أَقَرَّ فَقَدْ تَصَرَّفَ بِأَمْرِ رَبِّ الْمَالِ فَيَبْرَأُ مِنْ الضَّمَانِ وَلَوْ بَاعَ الْعَبْدَ أَوْ وَهَبَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ، ثُمَّ أَقَرَّ بِذَلِكَ بَعْدَ الْبَيْعِ قَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ: يَنْبَغِي فِي قِيَاسِ مَا إذَا دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا عَبْدًا بِعَيْنِهِ، إنَّهُ يَجُوزُ وَيَلْزَمُ الْآمِرَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَبِيعَ الْعَبْدَ لِنَفْسِهِ.
وَقَالَ هِشَامٌ: سَمِعْتُ مُحَمَّدًا قَالَ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً، فَجَاءَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَقَالَ: هَذِهِ الْأَلْفُ رَأْسُ الْمَالِ، وَهَذِهِ الْخَمْسُمِائَةِ رِبْحٌ وَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ: عَلَيَّ دَيْنٌ فِيهِ لِفُلَانٍ كَذَا كَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: إذَا أَقَرَّ الْمُضَارِبُ أَنَّهُ عَمِلَ بِالْمَالِ، وَأَنَّ فِي يَدِهِ عَشْرَةَ آلَافٍ، وَعَلَيَّ فِيهَا دَيْنٌ أَلْفٌ، أَوْ أَلْفَانِ فَقَالَ ذَلِكَ فِي كَلَامٍ مُتَّصِلٍ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ، يَدْفَعُ الدَّيْنَ مِنْهُ سَمَّى صَاحِبَهُ، أَوْ لَمْ يُسَمِّهِ، وَإِنْ سَكَتَ سَكْتَةً ثُمَّ أَقَرَّ بِذَلِكَ وَسَمَّى صَاحِبَهُ أَوْ لَمْ يُسَمِّهِ لَمْ يُصَدَّقْ قَالَ: وَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْحَسَنُ يُخَالِفُ مَا قَالَ مُحَمَّدٌ (وَوَجْهُهُ) أَنَّهُ قَالَ: فِي يَدِي عَشْرَةُ آلَافٍ وَسَكَتَ فَقَدْ أَقَرَّ بِالرِّبْحِ، فَإِذَا قَالَ: عَلَيَّ دَيْنٌ أَلْفٌ فَقَدْ رَجَعَ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَالْإِقْرَارُ إذَا صَحَّ لَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ عَنْهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ ذَلِكَ مُتَّصِلًا؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَمْ يَسْتَقِرَّ بَعْدُ، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ.
(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنْ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ فِي حَالٍ يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِهِ، فَيَنْفُذُ إقْرَارُهُ كَمَا إذَا قَالَ: هَذَا رِبْحٌ وَعَلَيَّ دَيْنٌ وَقَوْلُهُ: إنَّ قَوْلَهُ عَلَيَّ دَيْنٌ بَعْدَ مَا سَكَتَ، يَكُونُ رُجُوعًا عَمَّا أَقَرَّ بِهِ مِنْ الرِّبْحِ، مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنَّهُ رَبِحَ ثُمَّ لَزِمَهُ الدَّيْنُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ: قَدْ رَبِحْت وَلَزِمَنِي دَيْنٌ، وَهُوَ يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِالدَّيْنِ، فَإِذَا أَقَرَّ بِهِ صَحَّ؟ وَلَوْ جَاءَ الْمُضَارِبُ بِأَلْفَيْنِ، فَقَالَ: أَلْفٌ رَأْسُ الْمَالِ، وَأَلْفٌ رِبْحٌ ثُمَّ قَالَ: مَا أَرْبَحُ إلَّا خَمْسَمِائَةٍ، ثُمَّ هَلَكَ الْمَالُ كُلُّهُ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ فَإِنَّ الْمُضَارِبَ يَضْمَنُ الْخَمْسَمِائَةِ الَّتِي جَحَدَهَا، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي بَاقِي الْمَالِ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، فَإِذَا جَحَدَهُ صَارَ غَاصِبًا بِالْجُحُودِ فَيَضْمَنُ إذَا هَلَكَ، وَلَوْ قَالَ الْمُضَارِبُ لِرَبِّ الْمَالِ: قَدْ دَفَعْتُ إلَيْكَ رَأْسَ مَالِكَ، وَاَلَّذِي بَقِيَ فِي يَدِي رِبْحٌ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لَمْ أَدْفَعْهُ إلَيْكَ، وَلَكِنْ هَلَكَ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ مَا ادَّعَى دَفْعَهُ إلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ جَاحِدًا بِدَعْوَى الدَّفْعِ، فَيَضْمَنُ بِالْجُحُودِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَلَفَا فِي الرِّبْحِ ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: لَمْ أَدْفَعْهُ إلَيْكَ وَلَكِنَّهُ هَلَكَ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ مَا ادَّعَى دَفْعَهُ إلَى رَبِّ الْمَالِ لِمَا بَيَّنَّا.
وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي الرِّبْحِ، فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: شَرَطْتُ لَكَ الثُّلُثَ وَقَالَ الْمُضَارِبُ: شَرَطْتَ لِي النِّصْفَ ثُمَّ هَلَكَ الْمَالُ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ قَالَ مُحَمَّدٌ: يَضْمَنُ الْمُضَارِبُ السُّدُسَ مِنْ الرِّبْحِ، يُؤَدِّيهِ إلَى رَبِّ الْمَالِ مِنْ مَالِهِ خَاصَّةً، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقَوْلَ فِي شَرْطِ الرِّبْحِ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَصِيبُ الْمُضَارِبِ الثُّلُثُ، وَقَدْ ادَّعَى النِّصْفَ، وَمَنْ ادَّعَى أَمَانَةً فِي يَدِهِ ضَمِنَهَا، لِذَلِكَ يَضْمَنُ سُدُسَ الرِّبْحِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يَبْطُلُ بِهِ عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَبْطُلُ بِهِ عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ فَعَقْدُ الْمُضَارَبَةِ يَبْطُلُ بِالْفَسْخِ، وَبِالنَّهْيِ عَنْ التَّصَرُّفِ، لَكِنْ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِ الْفَسْخِ وَالنَّهْيِ وَهُوَ عِلْمُ صَاحِبِهِ بِالْفَسْخِ وَالنَّهْيِ، وَأَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا وَقْتَ الْفَسْخِ وَالنَّهْيِ، فَإِنْ كَانَ مَتَاعًا لَمْ يَصِحَّ، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ حَتَّى يَنِضَّ كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ كَانَ عَيْنًا صَحَّ لَكِنْ لَهُ صَرْفُ الدَّرَاهِمِ إلَى الدَّنَانِيرِ، وَالدَّنَانِيرِ إلَى الدَّرَاهِمِ بِالْبَيْعِ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ بَيْعًا لِتَجَانُسِهِمَا فِي مَعْنَى الثَّمَنِيَّةِ، وَتَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَشْتَمِلُ عَلَى الْوَكَالَةِ، وَالْوَكَالَةُ تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ وَسَوَاءٌ عَلِمَ الْمُضَارِبِ بِمَوْتِ رَبِّ الْمَالِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ لِأَنَّهُ عَزْلٌ حُكْمِيٌّ فَلَا يَقِفُ عَلَى الْعِلْمِ كَمَا فِي الْوَكَالَةِ، إلَّا أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ إذَا صَارَ مَتَاعًا، فَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يَصِيرَ نَاضًّا لِمَا بَيَّنَّا، وَتَبْطُلُ بِجُنُونِ أَحَدِهِمَا إذَا كَانَ مُطْبِقًا؛ لِأَنَّهُ يُبْطِلُ أَهْلِيَّةَ الْأَمْرِ لِلْآمِرِ، وَأَهْلِيَّةَ التَّصَرُّفِ لِلْمَأْمُورِ، وَكُلُّ مَا تَبْطُلُ بِهِ الْوَكَالَةُ تَبْطُلُ بِهِ الْمُضَارَبَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ تَفْصِيلُهُ.
وَلَوْ ارْتَدَّ رَبُّ الْمَالِ فَبَاعَ الْمُضَارِبُ وَاشْتَرَى بِالْمَالِ بَعْدَ الرِّدَّةِ، فَذَلِكَ كُلُّهُ مَوْقُوفٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ إنْ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ ذَلِكَ نَفَذَ كُلُّهُ، وَالْتَحَقَتْ رِدَّتُهُ بِالْعَدَمِ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِ الْمُضَارَبَةِ وَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَرْتَدَّ أَصْلًا، وَكَذَلِكَ إنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ عَادَ مُسْلِمًا قَبْلَ أَنْ يُحْكَمَ بِلِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ، عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي يَشْتَرِطُ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِلِحَاقِهِ لِلْحُكْمِ بِمَوْتِهِ وَصَيْرُورَةِ أَمْوَالِهِ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ.
فَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ، أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَقَضَى الْقَاضِي بِلِحَاقِهِ بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ مِنْ يَوْمِ ارْتَدَّ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ أَنَّ مِلْكَ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفٌ إنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ، أَوْ لَحِقَ فَحُكِمَ بِاللُّحُوقِ، يَزُولُ مِلْكُهُ مِنْ وَقْتِ الرِّدَّةِ إلَى وَرَثَتِهِ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَيَبْطُلُ تَصَرُّفُ الْمُضَارِبِ بِأَمْرِهِ لَبُطْلَانِ أَهْلِيَّةِ الْآمِرِ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ يَوْمَئِذٍ قَائِمًا فِي يَدِهِ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهِ ثُمَّ اشْتَرَى بَعْدَ ذَلِكَ، فَالْمُشْتَرَى وَرِبْحُهُ يَكُونُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ زَالَ مِلْكُ رَبِّ الْمَالِ عَنْ الْمَالِ فَيَنْعَزِلُ الْمُضَارِبُ عَنْ الْمُضَارَبَةِ، فَصَارَ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ الْوَرَثَةِ بِغَيْرِ أَمْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ صَارَ رَأْسُ الْمَالِ مَتَاعًا فَبَيْعُ الْمُضَارِبِ فِيهِ وَشِرَاؤُهُ جَائِزٌ، حَتَّى يَنِضَّ رَأْسُ الْمَالِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، لَا يَنْعَزِلُ بِالْعَزْلِ وَالنَّهْيِ، وَلَا بِمَوْتِ رَبِّ الْمَالِ، فَكَذَلِكَ رِدَّتُهُ، فَإِنْ حَصَلَ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ دَنَانِيرُ وَرَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمُ، أَوْ حَصَلَ فِي يَدِهِ دَرَاهِمُ وَرَأْسُ الْمَالِ دَنَانِيرُ، فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ التَّصَرُّفُ؛ لِأَنَّ الَّذِي حَصَلَ فِي يَدِهِ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ مَعْنًى لِاتِّحَادِهِمَا فِي الثَّمَنِيَّةِ فَيَصِيرُ كَأَنَّ عَيْنَ الْمَالِ قَائِمٌ فِي يَدِهِ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا فَقَالُوا إنْ بَاعَ بِجِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ جَازَ؛ لِأَنَّ عَلَى الْمُضَارِبِ أَنْ يَرُدَّ مِثْلَ رَأْسِ الْمَالِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ مَا فِي يَدِهِ كَالْعُرُوضِ.
وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَالرِّدَّةُ لَا تَقْدَحُ فِي مِلْكِ الْمُرْتَدِّ، فَيَجُوزُ تَصَرُّفُ الْمُضَارِبِ بَعْدَ رِدَّةِ رَبِّ الْمَالِ، كَمَا يَجُوزُ تَصَرُّفُ رَبِّ الْمَالِ بِنَفْسِهِ عِنْدَهُمَا، فَإِنْ مَاتَ رَبُّ الْمَالِ أَوْ قُتِلَ كَانَ مَوْتُهُ كَمَوْتِ الْمُسْلِمِ فِي بُطْلَانِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ، وَكَذَلِكَ إنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَحُكِمَ بِلِحَاقِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَالَهُ يَصِيرُ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ، فَبَطَلَ أَمْرُهُ فِي الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يَرْتَدَّ رَبُّ الْمَالِ وَلَكِنْ الْمُضَارِبُ ارْتَدَّ، فَالْمُضَارَبَةُ عَلَى حَالِهَا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ وُقُوفَ تَصَرُّفِ رَبِّ الْمَالِ بِنَفْسِهِ لِوُقُوفِ مِلْكِهِ، وَلَا مِلْكَ لِلْمُضَارِبِ فِيمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ، بَلْ الْمِلْكُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَلَمْ تُوجَدْ مِنْهُ الرِّدَّةُ، فَبَقِيَتْ الْمُضَارَبَةُ إلَّا أَنَّهُ لَا عُهْدَةَ عَلَى الْمُضَارِبِ، وَإِنَّمَا الْعُهْدَةُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْعُهْدَةَ تَلْزَمُ بِسَبَبِ الْمَالِ فَتَكُونُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَصَارَ كَمَا لَوْ وَكَّلَ صَبِيًّا مَحْجُورًا أَوْ عَبْدًا مَحْجُورًا، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَالْعُهْدَةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ كَتَصَرُّفِ الْمُسْلِمِ.
وَإِنْ مَاتَ الْمُضَارِبُ أَوْ قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّ مَوْتَهُ فِي الرِّدَّةِ كَمَوْتِهِ قَبْلَ الرِّدَّةِ، وَكَذَا إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَقُضِيَ بِلُحُوقِهِ؛ لِأَنَّ رِدَّتَهُ مَعَ اللَّحَاقِ، وَالْحُكْمُ بِهِ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ فِي بُطْلَانِ تَصَرُّفِهِ، فَإِنْ لَحِقَ الْمُضَارِبُ بِدَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ رِدَّتِهِ فَبَاعَ وَاشْتَرَى هُنَاكَ، ثُمَّ رَجَعَ مُسْلِمًا، فَجَمِيعُ مَا اشْتَرَى وَبَاعَ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَكُونُ لَهُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ صَارَ كَالْحَرْبِيِّ إذَا اسْتَوْلَى عَلَى مَالِ إنْسَانٍ، وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، إنَّهُ يَمْلِكُهُ، فَكَذَا الْمُرْتَدُّ، وَأَمَّا ارْتِدَادُ الْمَرْأَةِ أَوْ عَدَمُ ارْتِدَادِهَا سَوَاءٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، سَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ لَهَا أَوْ كَانَتْ مُضَارَبَةً؛ لِأَنَّ رِدَّتَهَا لَا تُؤَثِّرُ فِي مِلْكِهَا، إلَّا أَنْ تَمُوتَ، فَتَبْطُلُ الْمُضَارَبَةُ كَمَا لَوْ مَاتَتْ قَبْلَ الرِّدَّةِ، أَوْ لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَحُكِمَ بِلِحَاقِهَا، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ، وَتَبْطُلُ بِهَلَاكِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ شَيْئًا فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لِعَقْدِ الْمُضَارَبَةِ بِالْقَبْضِ فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ بِهَلَاكِهِ كَالْوَدِيعَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَهْلَكَهُ الْمُضَارِبُ أَوْ أَنْفَقَهُ أَوْ دَفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ، فَاسْتَهْلَكَهُ لِمَا قُلْنَا حَتَّى لَا يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ شَيْئًا لِلْمُضَارَبَةِ بِهِ، فَإِنْ أَخَذَ مِثْلَهُ مِنْ الَّذِي اسْتَهْلَكَهُ، كَانَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ عِوَضَ رَأْسِ الْمَالِ، فَكَانَ أَخْذُ عِوَضِهِ بِمَنْزِلَةِ أَخْذِ ثَمَنِهِ، فَيَكُونُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ.
وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَوْ أَقْرَضَهَا الْمُضَارِبُ رَجُلًا، فَإِنْ رَجَّعَ إلَيْهِ الدَّرَاهِمَ بِعَيْنِهَا، رَجَعَتْ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ تَعَدَّى يَضْمَنُ لَكِنْ زَالَ التَّعَدِّي فَيَزُولُ الضَّمَانُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ، وَإِنْ أَخَذَ مِثْلَهَا لَمْ يَرْجِعْ فِي الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ قَدْ اسْتَقَرَّ بِهَلَاكِ الْعَيْنِ، وَحُكْمُ الْمُضَارَبَةِ مَعَ الضَّمَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ.
وَلِهَذَا يُخَالِفُ مَا رَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الِاسْتِهْلَاكِ، هَذَا إذَا هَلَكَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْمُضَارِبُ شَيْئًا، فَإِنْ هَلَكَ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِأَنْ كَانَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ أَلْفًا، فَاشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً وَلَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ الْبَائِعَ حَتَّى هَلَكَتْ الْأَلْفُ، فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: الْجَارِيَةُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ وَيَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِالْأَلْفِ، فَيُسَلِّمُهَا إلَى الْبَائِعِ، وَكَذَلِكَ إنْ هَلَكَتْ الثَّانِيَةُ الَّتِي قَبَضَ يَرْجِعُ بِمِثْلِهَا عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَكَذَلِكَ سَبِيلُ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ، وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ أَبَدًا حَتَّى يُسَلِّمَ إلَى الْبَائِعِ، وَيَكُونَ مَا دَفَعَهُ أَوَّلًا رَبُّ الْمَالِ، وَمَا غَرِمَ كُلُّهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ مُتَصَرِّفٌ لِرَبِّ الْمَالِ، فَيَرْجِعُ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الضَّمَانِ بِتَصَرُّفِهِ كَالْوَكِيلِ.
غَيْرَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْوَكِيلِ وَالْمُضَارِبِ أَنَّ الْوَكِيلَ إذَا هَلَكَ الثَّمَنُ فِي يَدِهِ فَرَجَعَ بِمِثْلِهِ إلَى الْمُوَكِّلِ، ثُمَّ هَلَكَ الثَّانِي لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَالْمُضَارِبُ يَرْجِعُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْوَكَالَةَ قَدْ انْتَهَتْ بِشِرَاءِ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْوَكَالَةِ بِالشِّرَاءِ اسْتِفَادَةُ مِلْكِ الْمَبِيعِ لَا الرِّبْحِ، فَإِذَا اشْتَرَى فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ فَانْتَهَى عَقْدُ الْوَكَالَةِ بِانْتِهَائِهِ، وَوَجَبَ عَلَى الْوَكِيلِ الثَّمَنُ لِلْبَائِعِ، فَإِذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَهُ الْبَائِعَ، وَجَبَ لِلْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ مِثْلُ مَا وَجَبَ لِلْبَائِعِ عَلَيْهِ، فَإِذَا قَبَضَهُ مَرَّةً فَقَدْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ، فَلَا يَجِبُ لَهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ فَأَمَّا الْمُضَارَبَةُ فَإِنَّهَا لَا تَنْتَهِي بِالشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الرِّبْحُ، وَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَإِذَا بَقِيَ الْعَقْدُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ ثَانِيًا وَثَالِثًا، وَمَا غَرِمَ رَبُّ الْمَالِ مَعَ الْأَوَّلِ يَصِيرُ كُلُّهُ رَأْسَ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ غَرِمَ لِرَبِّ الْمَالِ بِسَبَبِ الْمُضَارَبَةِ، فَيَكُونُ كُلُّهُ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْعَقْدِ هُوَ الرِّبْحُ فَلَوْ لَمْ يَصِرْ مَا غَرِمَ رَبُّ الْمَالِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَيَهْلَكُ مَجَّانًا، يَتَضَرَّرُ بِهِ رَبُّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ يُخَسِّرُ وَيُرَبِّحُ الْمُضَارِبَ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ.
وَلَوْ قَبَضَ الْمُضَارِبُ الْأَلْفَ الْأُولَى فَتَصَرَّفَ فِيهَا حَتَّى صَارَتْ أَلْفَيْنِ، ثُمَّ اشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَلْفَانِ، فَهَلَكَتْ الْأَلْفَانِ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَهَا الْبَائِعُ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَيَغْرَمُ الْمُضَارِبُ مِنْ مَالِهِ خَمْسَمِائَةٍ، وَهِيَ حِصَّتُهُ مِنْ الرِّبْحِ، فَيَكُونُ رُبْعُ الْجَارِيَةِ لِلْمُضَارِبِ خَاصَّةً، وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَرَأْسُ الْمَالِ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَرْبَاعِ أَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةٍ.
وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَى الْجَارِيَةَ بِأَلْفَيْنِ فَقَدْ اشْتَرَاهَا أَرْبَاعًا، رُبْعُهَا لِلْمُضَارِبِ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَاهَا بَعْدَ مَا ظَهَرَ مِلْكُ الْمُضَارِبِ فِي الرِّبْحِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَاهَا بِأَلْفَيْنِ، وَرَأْسُ الْمَالِ أَلْفٌ- فَحِصَّةُ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ خَمْسُمِائَةٍ، وَحِصَّةُ الْمُضَارِبِ خَمْسُمِائَةٍ، فَمَا اشْتَرَاهُ لِرَبِّ الْمَالِ رَجَعَ عَلَيْهِ، وَمَا اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ فَضَمَانُهُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا خَرَجَ رِبْحُ الْجَارِيَةِ مِنْ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا أَلْزَمَهُ ضَمَانَ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ فَقَدْ عَيَّنَهُ، وَلَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِالْقِيمَةِ، فَخَرَجَ الرِّبْحُ مِنْ الْمُضَارَبَةِ وَبَقِيَ الْبَاقِي عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَقَدْ لَزِمَ رَبَّ الْمَالِ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ بِسَبَبِ الْمُضَارَبَةِ، فَصَارَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي رَأْسِ الْمَالِ، فَصَارَ رَأْسُ الْمَالِ أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةٍ، فَإِنْ بِيعَتْ هَذِهِ الْجَارِيَةُ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، مِنْهَا لِلْمُضَارِبِ أَلْفٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حِصَّتُهُ مِنْ الرِّبْحِ، فَكَانَ مِلْكُهُ، وَبَقِيَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، لِرَبِّ الْمَالِ مِنْهَا أَلْفَانِ، وَخَمْسُمِائَةٍ رَأْسُ مَالِهِ، يَبْقَى رِبْحٌ خَمْسُمِائَةٍ، فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عَلَى الشَّرْطِ.
وَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ تُسَاوِي أَلْفَيْنِ، وَالشِّرَاءُ بِأَلْفٍ، وَهِيَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ، فَضَاعَتْ، غَرِمَهَا رَبُّ الْمَالِ كُلُّهَا؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ إذَا وَقَعَ بِأَلْفٍ فَقَدْ وَقَعَ بِثَمَنٍ، كُلِّهِ رَأْسُ الْمَالِ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ الرِّبْحُ فِي الثَّانِي، فَيَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ هُنَاكَ الشِّرَاءَ وَقَعَ بِأَلْفَيْنِ فَظَهَرَ رِبْحُ الْمُضَارِبِ، وَهَلَكَ رُبْعُ الْجَارِيَةِ، فَيَغْرَمُ حِصَّةَ ذَلِكَ الرُّبْعِ مِنْ الثَّمَنِ وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْمُضَارِبِ إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ، أَلْفٌ رِبْحٌ، وَقِيمَتُهَا أَلْفٌ، فَضَاعَتْ الْأَلْفَانِ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَهَا الْبَائِعَ، إنَّهُ عَلَى أَنَّ عَلَى الْمُضَارِبِ الرُّبْعَ، وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ، وَعَلَى رَبِّ الْمَالِ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ، وَهَذَا عَلَى مَا بَيَّنَّا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفَيْنِ، بِأَمَةٍ تُسَاوِي أَلْفًا، وَقَبَضَ الَّتِي اشْتَرَاهَا، وَلَمْ يَدْفَعْ أَمَتَهُ حَتَّى مَاتَتَا جَمِيعًا فِي يَدِهِ، فَإِنَّهُ يَغْرَمُ قِيمَةَ الَّتِي اشْتَرَى، وَهِيَ أَلْفٌ، يَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ الَّتِي اشْتَرَاهَا، وَلَا فَضْلَ فِي ذَلِكَ عَنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَهَذَا إنَّمَا يَجُوزُ، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْمُضَارِبُ جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَلْفٌ بِأَلْفَيْنِ، إذَا كَانَ رَبُّ الْمَالِ قَالَ لَهُ: اشْتَرِ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَإِلَّا فَشِرَاءُ الْمُضَارِبِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَصِحُّ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي نَوَادِرِهِ، فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، فَاشْتَرَى الْمُضَارِبُ وَبَاعَ حَتَّى صَارَ الْمَالُ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، فَاشْتَرَى بِثَلَاثَةِ آلَافٍ ثَلَاثَةَ أَعْبُدٍ، قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ أَلْفٌ، وَلَمْ يَنْقُدْ الْمَالَ حَتَّى ضَاعَ قَالَ: يَغْرَمُ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَيَكُونُ رَأْسُ الْمَالِ أَرْبَعَةَ آلَافٍ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَهُ مِلْكٌ فِي وَاحِدٍ مِنْ الْعَبِيدِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ الْمَالِ، لِهَذَا لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ فِيهِمْ، فَيَرْجِعُ بِجَمِيعِ ثَمَنِهِمْ.
وَقَدْ عَلَّلَ مُحَمَّدٌ لِهَذَا فَقَالَ مِنْ قَبْلُ: إنَّ الْمُضَارِبَ لَمْ يَكُنْ يَجُوزُ عِتْقُهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعَبِيدِ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ، فَإِنَّهُ قَالَ: إنَّ مُحَمَّدًا يَعْتَبِرُ الْمَضْمُونَ عَلَى الْمُضَارِبِ الَّذِي يَغْرَمُهُ دُونَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْمُضَارِبَ إذَا قَبَضَ وَلَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ حَتَّى هَلَكَ، كَانَ الْمُعْتَبَرُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ، فَإِنْ كَانَ مَا يَضْمَنُهُ زَائِدًا عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، كَانَ عَلَى الْمُضَارِب حِصَّةُ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّا إذَا اعْتَبَرْنَا الضَّمَانَ فَقَدْ ضَمِنَ أَكْثَرَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، فَإِمَّا أَنْ يَجْعَلَ عَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ، أَوْ يَكُونَ الشَّرْطُ فِيمَا صَارَ مَضْمُونًا عَلَى الْمُضَارِبِ أَنْ يَتَعَيَّنَ حَقُّهُ فِيهِ، وَهُنَا وَإِنْ ضَمِنَ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ حَقُّهُ فِيهِ، وَأَمَّا تَعْلِيلُهُ بِعَدَمِ نَفَاذِ الْعِتْقِ فَلَا يَطَّرِدُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى بِالْأَلْفَيْنِ جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفًا، يَضْمَنُ وَإِنْ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ فِيهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ جَعَلَ نُفُوذَ الْعِتْقِ فِي الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَاةِ بِأَلْفَيْنِ، وَقِيمَتُهَا أَلْفَانِ عَلَيْهِ؛ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، فَمَا لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ فِيهِ، يَكُونُ عَكْسَ الْعِلَّةِ، فَلَا يَلْزَمُهُ طَرْدُهُ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ إذَا اشْتَرَى الْمُضَارِبُ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَهِيَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ، فَفَقَدَ الْمَالَ، فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: اشْتَرَيْتُهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، ثُمَّ ضَاعَ الْمَالُ وَقَالَ الْمُضَارِبُ: اشْتَرَيْتُهُ بَعْدَ مَا ضَاعَ، وَأَنَا أَرَى أَنَّ الْمَالَ عِنْدِي فَإِذَا قَدْ ضَاعَ قَبْلَ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ مَنْ يَشْتَرِي شَيْئًا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ، وَلِأَنَّ الْحَالَ يَشْهَدُ بِهِ أَيْضًا، وَهُوَ هَلَاكُ الْمَالِ، فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمُضَارِبِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْمُضَارَبَةِ الْكَبِيرَةِ إذَا اخْتَلَفَا، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: ضَاعَ قَبْلَ أَنْ تَشْتَرِيَ الْجَارِيَةَ، وَإِنَّمَا اشْتَرَيْتهَا لِنَفْسِكَ، وَقَالَ الْمُضَارِبُ: ضَاعَ الْمَالُ بَعْدَ مَا اشْتَرَيْتُهَا، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ آخُذَكَ بِالثَّمَنِ، وَلَا أَعْلَمُ مَتَى ضَاعَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ مَعَ يَمِينِهِ، وَعَلَى الْمُضَارِبِ الْبَيِّنَةُ، أَنَّهُ اشْتَرَى وَالْمَالُ عِنْدَهُ إنَّمَا ضَاعَ بَعْدَ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَنْفِي الضَّمَانَ عَنْ نَفْسِهِ، وَالْمُضَارِبُ يَدَّعِي عَلَيْهِ الضَّمَانَ؛ لِيَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي وُقُوعَ الْعَقْدِ لَهُ، وَرَبُّ الْمَالِ يُنْكِرُ ذَلِكَ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَلِأَنَّ الْحَالَ وَهُوَ الْهَلَاكُ شَهِدَ لِرَبِّ الْمَالِ، فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الضَّمَانَ فَكَانَتْ أَوْلَى.
وَإِذَا انْفَسَخَتْ الْمُضَارَبَةُ، وَمَالُ الْمُضَارَبَةِ دُيُونٌ عَلَى النَّاسِ، وَامْتَنَعَ عَنْ التَّقَاضِي وَالْقَبْضِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ أُجْبِرَ عَلَى التَّقَاضِي وَالْقَبْضِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ رِبْحٌ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِمَا، وَقِيلَ لَهُ: أَحِلَّ رَبَّ الْمَالِ بِالْمَالِ عَلَى الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ هُنَاكَ رِبْحٌ كَانَ لَهُ فِيهِ نَصِيبٌ، فَيَكُونُ عَمَلُهُ عَمَلَ الْأَجِيرِ، وَالْأَجِيرُ مَجْبُورٌ عَلَى الْعَمَلِ فِيمَا الْتَزَمَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ رِبْحٌ لَمْ تُسَلَّمْ لَهُ مَنْفَعَةٌ، فَكَانَ عَمَلُهُ عَمَلَ الْوُكَلَاءِ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى إتْمَامِ الْعَمَلِ، كَمَا لَا يُجْبَرُ الْوَكِيلُ عَلَى قَبْضِ الثَّمَنِ، غَيْرَ أَنَّهُ يُؤْمَرُ الْمُضَارِبُ أَوْ الْوَكِيلُ أَنْ يُحِيلَ رَبَّ الْمَالِ عَلَى الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ حَتَّى يُمْكِنَهُ قَبْضُهُ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ رَاجِعَةٌ إلَى الْعَاقِدِ، فَلَا يُثْبِتُ وِلَايَةَ الْقَبْضِ لِلْآمِرِ إلَّا بِالْحَوَالَةِ مِنْ الْعَاقِدِ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُحِيلَهُ بِالْمَالِ حَتَّى لَا يُتْوَى حَقُّهُ.
وَلَوْ ضَمِنَ الْعَاقِدُ لِرَبِّ الْمَالِ هَذَا الدَّيْنَ الَّذِي عَلَيْهِ، لَمْ يَجُزْ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّ الْعَاقِدَ قَدْ جَعَلَهُ أَمِينًا فَلَا يَمْلِكُ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ ضَمِينًا فِيمَا جَعَلَهُ الْعَاقِدُ أَمِينًا.
وَلَوْ مَاتَ الْمُضَارِبُ وَلَمْ يُوجَدْ مَالُ الْمُضَارَبَةِ فِيمَا خَلَفَ، فَإِنَّهُ يَعُودُ دَيْنًا فِيمَا خَلَفَ الْمُضَارِبُ، وَكَذَا الْمُودِعُ وَالْمُسْتَعِيرُ وَالْمُسْتَبْضِعُ وَكُلُّ مَنْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِهِ أَمَانَةً، إذَا مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ وَلَا تُعْرَفُ الْأَمَانَةُ بِعَيْنِهَا، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَيْهِ دَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِالتَّجْهِيلِ مُسْتَهْلِكًا لِلْوَدِيعَةِ، وَلَا تُصَدَّقُ وَرَثَتُهُ عَلَى الْهَلَاكِ وَالتَّسْلِيمِ إلَى رَبِّ الْمَالِ.
وَلَوْ عَيَّنَ الْمَيِّتُ الْمَالَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، أَوْ عُلِمَ ذَلِكَ، يَكُونُ ذَلِكَ أَمَانَةً فِي وَصِيَّةٍ، أَوْ فِي يَدِ وَارِثِهِ، كَمَا كَانَ فِي يَدِهِ، وَيُصَدِّقُونَ عَلَى الْهَلَاكِ وَالدَّفْعِ إلَى صَاحِبِهِ، كَمَا يُصَدِّقُ الْمَيِّتُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.